إدمون بخّاش - دوّارة الهواء

لطالما وقف اللبناني حائرًا بين العديد من الشعارات والتوجّهات "الوطنيّة" والسياسيّة. كلّ توجّه يقدّمه أصحابه على أنّه الانجع اتّخاذه لخلاص لبنان.

تطوّرت هذة الشعارات والتوجّهات مع تطوّر الأحداث التى توالت على أرض لبنان، فمن نشوء دولة لبنان الكبير في ١٩٢٠، طُرح لبنان كوطن ملجأ للمسيحيّين وكلّ المضطهدين الساعين إلى الحريّة. هذا التوجّه لا زال قائمًا، وهو التوجّه التقليدي الذي تتبنّاه الكنيسة المارونيّة، إلى يومنا هذا، هي التي كان لها الفضل الاكبر في انشاء دولة لبنان الكبير من خلال الدور البارز الذي لعبه البطريرك الماروني مار الياس بطرس الحويّك. إلّا أن ليس جميع من هم على أرض لبنان ارتضوَا به.

في مرحلة الجمهوريّة اللبنانيّة في عام ١٩٤٣، تمّ اختراع الميثاق الوطني الذي كرّس التحاصص الطائفي. في هذه المرحلة كان التوجّه نحو حفظ الضمانة للطائفة من خلال المحاصصة. فقُسّم الوطن على طوائفه. تمّ تعديل هذا الاختراع باتّفاق الطائف الذي من مضامينه "وهم" إلغاء الطائفيّة السياسيّة، إلّا أنّ مفاعيل الطائفيّة لا زالت حاضرة، لأنّ الطوائف هي المكوّن الاساس للمجتمع اللبناني ولأنّ الطائفة هي المرجع الاساس لابنائها.

بعد ١٩٤٣ عرفت الجمهوريّة اضرابات وتحدّيات كثيرة، كنشوء دولة اسرائيل في العام ١٩٤٨، واذ اتّخذ العرب موقف المواجهة، نحى معهم إلى ذلك لبنان، الامر الذي كان بمثابة الزرع الأوّل لبذور توجّه جديد، أي لبنان المواجه والمقاوم لاسرائيل مع اشقّائه العرب.

 مع صعود فكر القوميّة العربيّة وثورة الضباط الأحرار في ١٩٥٣، لبنان لا زال بقناعة العديد من أبنائه، ذو وجه عربي وليس جمهوريّة عربيّة. تسبّب انتماء قسم كبير من اللبنانيّين إلى هذا الفكر الايديولوجي بمشاكل عديدة كانت نتيجتها قطيعة اولى من نوعها بين اللبنانيين، وهنا كانت بداية التوجّة الثالث، بأن يُعتبر لبنان جزءًا من الأمّة العربيّة المتّحدة التي أرادها جمال عبد الناصر في حينه.

شكّلت ازمة السلاح الفلسطيني بعد اتفاق القاهرة في ١٩٦٩ نقطة تحوّل جذري في سياق هذه التوجهات، إذ لم يعد يُنظر للبنان كوطن أصيل لابنائه بل كوطن بديل للفلسطينيين عن فلسطين. أدّى هذا التوجّه الى احداث ١٩٧٣.

  في فترة الحرب اللبنانيّة من عام ١٩٧٥ الى عام ١٩٩١، والتي كان من أبرز مسبّباتها السلاح الفلسطيني، ظهر الطرح الفدرالي مع كميل شمعون والطرح الكونفدرالي مع القوات اللبنانيّة وبرز خلالها شعار أمن المجتمع المسيحي فوق كلّ اعتبار.

في مرحلة الاحتلال السوري للأراضي اللبنانيّة من ١٩٩١ الى ٢٠٠٥ أتى شعار، شعب واحد في بلدين. 

في ٢٠٠٥ اغتيل رئيس وزراء لبنان الشهيد رفيق الحريري، حدث تبعه مسلسل اغتيالات للشخصيّات المعارضة للهيمنة السوريّة المباشرة وغير المباشرة. هذة مرحلة التوجّه نحو لبنان أوّلًا، الشعار السني الشهير، والاستقلال الثاني في ٢٠٠٥.

مع سيطرة حزب الله في لبنان على مفاصل الحكم وعلى الدولة، والتي تجسّدت عمليًّا في ٧ أيار ٢٠٠٨ ظهر التوجّه نحو شعار " الجيش والشعب والمقاومة". وبعد العقوبات الاميركيّة على سوريا وحلفائها ظهر شعار التوجّه شرقًا. 

هذا العرض هو ملخّص موجز عن ابرز التوجّهات الكبرى التي اجتاحت الساحة اللبنانيّة من ١٩٢٠ إلى يومنا الحاضر. هناك قاسم وحيد مشترك بين تعدّد هذه التوجّهات ألا وهو، أنّ كلّ واحد منها تسبّب في قسمة اللبنانيّين بين مؤيّد ومعارض ووطني وخائن. المؤيّدون هم عمومًا من الذين نشأت الفكرة في بيئتهم الثقافيّة والدينيّة، فرأوها معبّرة عن طموحاتهم. أمّا المعارضون فهم المنتمون إلى البيئة أو البيئات الأخرى، وراحت كلّ جهة تخوّن الأخرى.

هذه الحقيقة تدفعنا لأن نقول بوضوح وجرأة، لما لا يستقلّ كلّ مكوّن بمحيطه ويختار التوجّهات والمشاريع التي تناسبه فيلقى التأييد الكامل دون أن يُعرّض نفسه ومشروعه وتوجّهه للمواجهة من الآخرين، أمر جدّ بديهي وواضح، للذين يرونه طبعًا.

ّإنّ تبنّي مشروع فدراليّة موسّعة للبنان يحقّق ذلك لكل اللبنانيّين بمختلف أطيافهم. فيعطي كلّ مكوّن حق تقرير مصيره وانتمائه.

لبنان يشبه اليوم بتركيبته دوّارة الهواء التي توضع فوق سطوح المنازل ويعلوها رسم ديك . هذه الدوّارة لديها في طرف رأس سهم، وفي الطرف المقابل عَقِب السهم مع مسطّح لتلقّي الهواء، فإذا دفع الهواء هذا المُسطّح لجهة اليمين حاد السهم في المقابل لجهة اليسار المعاكسة لدوران المُسطّح. على هذا الشكل والمنوال تأتي المشاريع والتوجّهات في لبنان كالريح الضاربة في دوّارة الهواء، فتحيد اللبنانيّين منهم يمينًا ومنهم يسارًا. شبعنا دورانًا واسطفافات.