فؤاد مطران
يروّج معارضو الفدراليّة مقاربة، ينجرّ إليها أحيانًا بعض الفدراليين، مفادها الفصل بين النظام الفدرالي، من جهة، ومسألتي السياستين الخارجيّة والدفاعيّة.بمعنى آخر، يصوّر هؤلاء جوهر المشكلة اللبنانيّة على أنّها اختلاف بين اللبنانييّن على تحديد سياسة خارجيّة واحدة، ليحاججوا تاليًا أنّ النظام الفدرالي عاجز عن خلق توافق بين التوجّهات المختلفة للطوائف، كون هذه المسائل تبقى من صلاحيّة السلطات المركزيّة في الدولة الفدراليّة، ما يعني أنّ الفدراليّة ليست حلًّا لمشاكل لبنان الأساسيّة.
يغيب عن بال أصحاب هذه النظريّة أنّ توجّهات كلّ طائفة بحدّ ذاتها متقلّبة، لا بل في بعض الأحيان متناقضة. فلم تثبت طائفة واحدة على خياراتها الخارجيّة بشكل دائم؛ وحتّى مسألة حزب الله مع إيران لا يمكن مقاربتها من منطلق الخيارات الخارجيّة للطائفة الشيعيّة بصفتها هذه، لا بل من منطلق رابط ديني لن يصمد للأبد وستعود الطائفة الشيعيّة "لتلعب اللعبة" مثل باقي الطوائف، ولعلّها تتبنّى مستقبلًا خيارات على نقيض تامّ مع إيران.
فمن كان يتصوّر، مثلا، أن تصبح الطائفة السنية على مقربة من المحور الغربي، ويصبح رفيق الحريري الصديق الأقرب للرئيس الفرنسي جاك شيراك، بعد أن كانت هذه الطائفة عمومًا تنظر إلى فرنسا على أنّها دولة مستعمرة وعدوّة حطّمت الطموحات العربيّة؟ بالحقيقة، تعداد الأمثلة على تناقضات الطوائف في علاقتها الخارجيّة لا ينتهي، ولسنا هنا لتقييم هذه العلاقات أو الحكم عليها. لا بل الهدف نسف الرأي القائل إنّ مشكلة اللبنانيين تكمن في السياسة الخارجيّة.
جوهر المشكلة في لبنان داخلي ويتعلّق بإدارة العلاقة بين نخب الطوائف ونسب تمثيلها في السلطة. وما لجوء الطوائف إلى الخارج إلّا نتيجة لشعورها بالغبن في تمثيلها داخل السلطة خصوصًا عندما تتغيّر ديموغرافيّتها. فترى في تحالفاتها مع الخارج فرصة لتقوية وضعها داخليًّا وتعديل الموازين القائمة، أو لتثبيت موقعها داخل السلطة بوجه تغيّرات محتملة. فنخب الطوائف لم تنظر إلى الخارج سوى لخدمة موقعها بالداخل وليس العكس، وحالة حزب الله الاستثنائيّة تثبت هذه القاعدة.
انطلاقًا من هنا، تأتي الفدراليّة لتعالج أسباب بحث الطوائف عن حليف خارجي. فالفدراليّة من شأنها تهميش دور المعطى الديموغرافي في تحديد حجم تمثيل كلّ طائفة، ليصبح هذا التمثيل ثابتًا على أساس الولايات الفدراليّة، وليس على أساس العدد. إضافة إلى ذلك، لن تمتلك السلطة المركزيّة في الدولة الفدراليّة الصلاحيّات الواسعة التي تمتلكها اليوم، إذّ سيجيّر الجزء الأكبر منها للولايات الفدراليّة. وحيث تمتلك هذه الولايات صلاحيّات هامّة، كما في إدارة الأمور الماليّة وتنفيذ المشاريع الاقتصاديّة، يصبح التنافس على السلطة المركزيّة أقلّ حدّة بكثير ومن دون جدوى أو منفعة. فمن تحكّم بالسلطة المركزيّة اللبنانيّة بالأمس واليوم، استطاع الاستفادة من الماليّة العامّة على حساب الآخرين، لكنّ ذلك لن يعود متاحا غدا إذا قام النظام الفدرالي.
باختصار، تبني الفدراليّة الأسس الموضوعيّة لخلق حياد واقعي، على أن يأتي تبنّيه من قبل الدولة كشعار أو عقيدة رسميّة للتأكيد على الواقع الجديد القائم. وقد أثبتت التجارب صعوبة الحياد في ظلّ الدستور المركزي اللبناني. وبالنتيجة، رفع شعار الحياد ليس بالجديد علينا، ومنذ استقلال هذا البلد ونحن نتكلم بـ"لا شرق ولا غرب" و"تحييد لبنان عم لعبة المحاور والصراعات الخارجية"... وكلّ هذه الشعارات بقيت حبرًا على ورق نتيجة الديناميكيّة التي يفرضها النظام المركزي.