هشام بو ناصيف
المكان: ضهر الوحش، الدوّار، سوق الغرب، بيت مري
الزمان: 13 تشرين، 1990
الجيش السوري يتقدّم باتّجاه المناطق اللبنانيّة الحرّة. ميشال عون لجأ إلى السفارة الفرنسيّة وأذاع بيان الاستسلام الشهير عند التاسعة الّا ربعًا، صباحًا. نائب رئيس الأركان للعمليّات العميد جان فرح لم يأمر بايقاف النار حتّى الساعة الثانية عشر والنصف ظهرًا، والأخبار لم تصل إلى وحدات من اللواء العاشر منتشرة بمواجهة السوريّين. انقطع جنود اللواء العاشر، واللواء المجوقل عن كلّ شيء. لم يتلقّوا أيّ أوامر جديدة، فنفّذوا التعليمات القديمة: منع السوريّين من اجتياح آخر المعاقل اللبنانيّة الخالية منهم. حاول السوريّون الولوج من بيت مري، فأوقفهم جنود العاشر، قبل أن يستردّوا دير القلعة بهجوم مضادّ. وحدات المغاوير أربكت المدرّعات السوريّة في الدوّار. في سوق الغرب، استبسل تلامذة ضبّاط المدرسة الحربيّة لوقف الهجوم. ولكنّ الشراسة اللبنانيّة بلغت أوجّها مع الكتيبة 102، من اللواء العاشر. بينما تقدّمت الأرتال السوريّة من عاليه، بدا لها أنّ الجنود اللبنانيّين يهمّون بالاستسلام. ولكنّ السوريّين المقتربين من مواقع الكتيبة 102 علقوا بين نيران انصبّت عليهم منها فجأة، وألغام خطوط الدفاع التي انفجرت بهم. استمرّت المعركة لساعات، وبالنتيجة، أبيدت الكتيبة 102. 80 جثّة لجنود لبنانيّين وجدت لاحقًا على أرض المعركة، أياديهم مربوطة وراء ظهورهم، وفي رؤوسهم رصاص أطلق عليهم من الخلف.
لا إبادة الكتيبة 102 بعد أسر جنودها، ولا مجزرة بسوس تشرّف الجيش السوري. الأمر عينه صحيح عن المعاملة التي لقيها الضبّاط اللبنانيّون بعد سقوط وزارة الدفاع: العميدان فؤاد عون، ولويس خوري، مدير المخابرات العقيد عامر شهاب، المقدّمان فايز كرم، وفؤاد الأشقر، وغيرهم كثر سيقوا إلى مقرّ مخابرات جيش الاحتلال في عنجر، ومن هناك إلى سجن المزّة حيث أمضوا شهورًا. لا علاقة طبعًا للتعاطي المهين الذي لقيه الضبّاط اللبنانيّون عند السوريّين بالشرف العسكري؛ ولكنّ هذا الشرف شيء، وأخلاق انكشاريّة آل الأسد شيء آخر. وعلى العموم، تكثّف أحداث 13 تشرين الجوهر الثلاثي الأبعاد للعلاقات اللبنانيّة – السوريّة: 1) توحّش سوري وكراهية منقطعة النظير للبنان. 2) بطولة لبنانيّة واستعداد للتضحية "من تحت"، على مستوى الناس والعناصر. 3) رداءة لبنانيّة "من فوق"، على مستوى القيادة، هي خير حليف لحفّاري قبور اللبنانيّين.
تعود هذه المشاهد إلى البال كلّ 13 تشرين، لأنّه يوم النكبة التي أنهت آخر جيب للبنان الحقيقي، وافتتحت العصر المستمرّ لهذا الشيء الهجين الذي ينتحل منذ 30 عامًا صفة "لبنان". هذا الكابوس الذي نعيش مرّ على جثث الرائد ألبير طنّوس، والنقيبان علي أبو علي، وجورج سرحال، و110 على الأقلّ من رفاقهم. ولكنّ هذه المشاهد تعود إلى البال أيضًا لأنّ جبران باسيل حوّل 13 تشرين إلى محطّة سنويّة للاستغلال السياسي والتذكير بتضحيات لم يبذلها هو. نعم، أبطال 13 تشرين أبطال لبنان، ولكن أيّ علاقة لباسيل بهم؟ قسم منهم استشهد يوم المعركة. قسم آخر التقى مؤخّرًا لاستذكار رفاقهم والصلاة بكنيسة الصعود بضبيّه، وضمّ حفنة من أبطال الجيش الذي قاتلوا فعلًا في ذلك اليوم المشؤوم (منهم المقدّم فؤاد الأشقر، وقد صار عميدًا؛ والعميد سليم كلّاس، القائد السابق للواء الثامن؛ وسواهم). ليس بغير معنى أنّ العلاقة بين جلّ من حضر قدّاس الضبيّة وباسيل سيّئة أو مقطوعة. وبما أنّ الشيء بالشيء يذكر، فلا علاقة لباسيل أيضًا بتضحيات نشطاء التيّار الوطني الحرّ وطلّابه زمن الاحتلال السوري بعد الحرب (1990 – 2005)، اذ لم يعرف عنه مرّة أنّه أوقف، أو كان بخطر، كما كان آخرون من مؤسّسي التيّار في تلك المرحلة، كعبد اللّه الخوري على سبيل المثال لا الحصر، وقد بات منذ زمن خارج حزبه السابق، أو اللواء نديم لطيف. صحيح أنّ باسيل وفريق عمله من الوزراء والنوّاب الذين صنعهم، والمستوزرين والمستنوبين الذين يأملون أن يصنعهم، التقوا للاحتفال ب13 تشرين في "فوروم دي بيروت". ولكنّهم ينتحلون صفة إذ يحاولون الانتساب إلى مرجعيّة 13 تشرين. من يلتحق بالميليشيا حليفة السوريّين اليوم، لا علاقة له أخلاقيًّا ووطنيًّا بمن استشهد لصدّهم بالأمس. الأمور بهذا الوضوح.