جوني البواري
يعتبر البروفيسور غريغوري ستانتن في مؤلّفه "المراحل العشر للإبادة" أنّ النّكران يشكّل آخر مرحلة في مسار دموي طويل يرمي إلى فناء جماعة وشعب عن وجه الأرض. فالمجرم يبذل ما في وسعه لإبعاد التّهم. تارةً ما يتمثّل ذلك بطمس معالم الجريمة أو إخفائها، وتارةً في إلقاء اللّوم على الفصائل "غير المنضبطة"، وغيرها من زندقات بحقّ العدالة. فما هو القاسم المشترك بين السّلطات التّركية والاندونيسيّة، إذًا؟ المشترك هو أنّ القادة المسؤولين عن إبادة الشّعب الأرمني وشعب تيمور الشّرقية ينكرون اقتراف تلك الفظائع. وما شابه السّلطات الغواتيماليّة وما فعلته بحقّ شعوب المايا وتلك السودانية بحقّ القبائل الإفريقية غير العربية كالـ"فور" والـ"زغاوى" على يد ميليشيا "الجنجاويد" المدعومة من النّظام. فالهدف واحد: السّيطرة على الأرض والذّاكرة والتّاريخ. وبالفعل، هذا القاسم المشترك أفضى واضحًا بين جميع مرتكبي تلك الإبادات، والأمثلة لا تعدّ ولا تحصى. ولكن ما هو أخطر من النّكران هو النّسيان. حقًّا، إنّ أكثر ما يراهن عليه المجرم هو أن تنسى ضحيّته فعلتَه. وفي هذا الإطار، لا بدّ من استذكار قول المارشال فوش بأنّ "شعب بلا ذاكرة هو شعب بلا مسقبل".
ها هو الرّابع والعشرون من شهر نيسان يعيدنا إلى أكثر من مئة عام. يعيدنا، نحن، مسيحيّي جبل لبنان، إلى أكثر الحقبات ألمًا في تاريخنا. مع اندلاع الحرب العالميّة الأولى وانضمام السلطنة العثمانيّة إلى مجموعة دول المحور التي كانت تضمّ في طليعتها ألمانيا، ابتدأت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في جبل لبنان تزداد سوءًا. فكانت حصيلة ذلك، مجاعة أنهكت شعبنا وقتلت منه ما يقارب الـ 000 200 نسمة. وما أسباب تلك المجاعة؟ ولما أصابتنا بشكل خاص؟ هل يعود السّبب بشكل رئيسي إلى الجراد الذي ضرب الجبل، ربيع 1915، والّذي محا "الاخضر واليابس"؟ ماذا عن الحصار البحري الذي فرضه الحلفاء على شاطئ المتوسّط؟ لا شكّ في أنّ الجراد والحصار شكّلا إحدى خلفيات المجاعة. غير أنّ السّبب والغاية وراء ذلك هو بشكل واضح وصريح: إبادة مسيحيّي جبل لبنان. فمنذ أن عيّن جمال باشا السّفاح حاكمًا على سورية ولبنان وفلسطين سنة 1915، هالت المأساة على أهلنا. نقض السّفاح نظام المتصرفية، حوّل المتصرّفية إلى ولاية عثمانيّة وعيّن متصرّفين أتراك من المسلمين: علي منيف، اسماعيل حقّي وممتاز بك. الأمر الذي شكّل، آنذاك، مخالفة واضحة للمادة الأولى من نظام المتصرفيّة الّتي اشترطت أن يكون المتصرّف مسيحيًّا، ناهيك عن إجباره رجالنا على العمل في الجيش العثماني بالسّخرة، واللّائحة تطول. ما عاشه أهلنا آنذاك لا يمكن أن يتّصف إلّا بعمليّة إبادة جماعية ممنهجة خطّطها ونفّذها العثمانيّون الأتراك بقيادة جمال باشا السّفاح في الواجهة. هي حصيلة كراهيّة دامية عمرها مئات السّنين بحقّ المسيحيّين في الشّرق. فهذه الحقبة السّوداء شهدت على المذابح بحقّ السريان والآشوريين والأرمن والكلدان.
عرّفت المادّة الثانية من اتّفاقيّة منع جريمة الابادة الجماعيّة على أنّ الأفعال التي ترتكب بقصد "التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية" تعدّ إبادة جماعيّة. ونصّت الفقرة (ج) من المادّة على أنّ "إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا" جريمة إبادة جماعية. فقد اعتبرت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في قضيّة "كاييشيما وروزيندانا" أنّ "الحرمان المتعمّد من الموارد التي لا غنى عنها للبقاء على قيد الحياة، مثل الأغذية والخدمات الطّبية" هو من قبيل أعمال الفقرة المذكورة أعلاه. والجدير بالذّكر أنّه ليس مطلوبًا، كما جاء في كتاب "القانون الجنائي الدولي" للقاضي أنطونيو كاسيزي، "أنّ تؤدّي هذه الظروف في الواقع إلى الدّمار المادي للجماعة، كليًا أو جزئيًا، إنّما المطلوب هو أن "يراد منها تدمير الجماعة"، أي أن تهدف إلى تحقيق هذه النّتيجة". بعيدًا عن مسألة المفعول الرّجعي للاتّفاقيّات في القضايا الجنائيّة الدّولية، لا يمكن إلّا أن يتّصف، عن حقّ، أنّ ما جرى بشعبنا ليس مجاعة بسبب "استرتيجيا عسكرية خاطئة" أو "حصار وجراد" كما اعتادت مسامعنا في سنوات المدرسة، بل إبادة ممنهجة بحقّنا كشعب مسيحي لم يكن شعاره يومًا إلّا محبّة المسيح والحرّيّة. فكان العثمانيّون الأتراك عالمين بأنّ محاصيل الجبل لن تكفي المسيحيين الاستهلاك المحلي لأكثر من أربعة أشهر، ومع ذلك منعوا تصدير الحبوب من دمشق وحلب وغيرها من المناطق الدّاخلية إليهم. هذا فضلًا عن فرض جمال باشا الضريبة العينية المبنية بشكل أساسي على الحنطة، ما أدّى إلى تهريب بين الداخل والساحل وتفاقم الأسعار. ولا مناص من القول بأنّ نيّة إفناء مسيحيي جبل لبنان تجلّت أيضًا باستدعاء أمهر الأطباء لخدمة الجيش التركي، لا سيّما عمليّة أخذ العقاقير الطبيّة من الصيدليات. فضلًا عمّا جاء عن لسان أنور باشا:
“Nous avons supprimé les Arméniens par le fer; nous supprimerons les Libanais par la faim”.
من المحزن اليوم أن لا نرى شعبنا بأسره يستذكر هذه الحقبة كما يفعل الأرمن بالنسبة للابادة الأرمنية. فالابادة بمختلف أشكالها، جريمة. وكما أنّ السّبت صنع من أجل الانسان، كذلك الجماعات وجدت من أجل خير البشرية وإغنائها بالتّعددية. أمّا تلك الّتي تسعى إلى اكتساح غيرها، فلن تَسلَم من الحقّ والعدالة. العمل الدّؤوب لمكافحة خطر النّسيان هو واجب أخلاقي تجاه أهلنا، أهل جبل لبنان. لروحهم، أعظم تحيّة.