هشام بو ناصيف
أتابع بأسف منذ أشهر أفول التجربة الديموقراطيّة الوليدة في تونس. الرئيس الحالي قيس سعيّد وصل إلى منصبه عبر انتخابات حرّة، ثمّ استعمل سلطته لتعطيل كلّ ما يمتّ إلى الديموقراطيّة والعمل البرلماني بصلة، بدءًا بتعطيل الدستور وتعليق عمل البرلمان. ينتمي سعيّد إلى موجة الرجال الأقوياء الذين تفرزهم أزمة الديموقراطيّة، ثمّ يعمّقونها بدورهم، في أكثر من بلد بالعالم: جايير بوليسنارو في البرازيل؛ فيكتور اوربان في المجر؛ رجب طيّب أردوغان في تركيا؛ وسواهم. مع فارق طبعا أنّ سعيّد بزّ أقرانه بسرعة انقلابه الذاتي (Autogolpe) الذي دمّر تقريبًا كلّ البنى الدستوريّة الناظمة للحياة الديموقراطيّة في تونس منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي عام 2011. هاتان خلاصتان للبنان على خلفيّة المشهد التونسي:
1) قيس سعيّد هو ثاني رئيس غير إسلامي يحطّم تجربة ديموقراطيّة وليدة بعد الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي. يمكن انتقاد الكثير في سياسات حزب النهضة الاسلامي بتونس لجهة التلوّن، أوغياب المصداقيّة والسياسات العامّة الحصيفة. يبقى أنّ زعيم النهضة، راشد الغنّوشي، بخلاف سعيّد، لم يستعمل فوزه بالانتخابات للقبض على السلطة إلى الأبد، والأهمّ، ربّما، أنّه سلّمها بعد خسارته الانتخابات. ليس دفاعًا لا عن إسلاميّي تونس، ولا خصوصًا عن إسلاميّي مصر، الإشارة إلى أنّ من حطّم الديموقراطيّة بالبلدين ليسوا إسلاميّين. أكثر من ذلك – وهنا بيت القصيد – لعب علمانيّون تونسيّون دورًا معاديًا للديموقراطيّة منذ يومها الاوّل بحجّة أنّها تسمح للاسلاميّين بالتواجد والمنافسة السياسيّة، وهو ما يرفضه هؤلاء باسم قيمهم العلمانيّة. حتّى المشهد السوري إبّان الحرب الأهليّة لم يغيّر عند بعض علمانيّي تونس رأيهم: قسم منهم بقي يصفّق لبشّار الأسد، وانحاز علنًا له بحجّة أنّه يحارب الجهاديّين، دع عنك أنّ سياسات الأسد ووالده قبله سهّلت نشأتهم أصلًا. على سبيل المثال لا الحصر، يمكن الاشارة هنا إلى الوجه العلماني البارز عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحرّ، التي قالت عن النهضة إنّها "اخوان تونس" و "داعش تونس" ودعت إلى حظرها، بغضّ النظر عن التأييد الشعبي التي تتمتّع به النهضة في البلاد. هذه الأصوات العلمانيّة تصفّق اليوم لسعيّد لأنّه يضرب النهضة، ولو أنّه في هذه الاثناء يقضي على العمليّة الديموقراطيّة من أساسها. ويلوح في البال نفس المشهد المؤسف الذي برز سابقًا في مصر، حيث صفّق علمانيّون وتقدّميّون مفترضون كثر للسيسي عندما تخلّص من الاخوان المسلمين، دع عنك مجزرة رابعة، وأنّ السيسي لم يتخلّص من الاخوان فقط، بل أيضًا من التحوّل الديموقراطي المصري بأسره.
هذه ملاحظات برسم علمانيّين لبنانيّين يقدّمون العلمنة بصفتها حلًّا سحريًّا لمشاكل بلادهم والمنطقة. ليس كلّ العلمانيّين العرب معادين للديموقراطيّة طبعًا، ولكنّ الأكيد أنّ قسمًا وازنًا من غلاة أعداء الديموقراطيّة العرب علمانيّون. حبّذا لو ينتبه العلمانيّون عندنا إلى ما اقترفه رفاقهم ويقترفونه اليوم، ولو يخفّفوا قليلًا من الفوقيّة الأخلاقيّة والفكريّة التي يتعاطون بها مع من لا يشاركهم النظرة، هي فوقيّة الأبله السعيد الذي يضع الإيديولوجيا فوق الامبيريقيا، ثمّ يقتنع أنّ عنده "نظريّة" تكشف له ما لا يراه سواه من بسطاء العقول.
2) نظريًّا، أقلّه، تملك تونس معطيات كثيرة كان ينبغي لها تعبيد الطريق صوب التحوّل الديموقراطي. بخلاف دول المشرق العربي، تونس متجانسة طائفيًّا، ولو أنّ بعض النزعات الجهويّة تضفي مسحة توتّر على العلاقات بين الجنوب التونسي، ومناطق الداخل عمومًا، من جهة، والمناطق الساحليّة من جهة أخرى. ثمّ أنّ الجيش التونسي لم يحترف الانقلابات العسكريّة، والمرأة التونسيّة دفعتها البورقيبيّة قدمًا من زمن، وحجم الطبقة الوسطى معقول، عدا طبعًا عن القرب الجغرافي لديموقراطيّات أوروبا الليبراليّة، وكثافة التواصل معها، وخصوصًا فرنسا. كان ينبغي لهذه المعطيات أن تسهّل التجربة الديموقراطيّة الوليدة، ومع ذلك فشلت. الملاحظة الطبيعيّة هنا هي هذه: إن لم تستمرّ الديموقراطيّة في المجتمع التونسي الذي يبزّ سواه في بلاد العرب تقدّمًا بأشواط، فمن المحال تخيّل الديموقراطيّة في دول كسوريا، أو ليبيا، أو اليمن، أو الجزائر لعقود (ربمّا قرون؟) بعد. باختصار: إن لم تأتِ الأخبار الجيّدة من تونس، فلن تأتينا من أيّ مكان آخر في العالم العربي. يعني هذا أنّ "الانعزاليّين" اللبنانيّين المفترضين كانوا على حقّ منذ اللحظة الأولى لجهة نظرتهم الحذرة إلى المحيط، وتشكيكهم المعروف باحتمالات اللبرلة فيه، ورغبتهم القديمة – الجديدة بحصر العلاقات معه بالبعد المركنتيلي للأمور. أمّا الهويّات العابرة للحدود التي ورّطتنا بقضايا العرب وأحوالهم، فهذا درس الخضراء أمامها: إن كان الرهان الديموقراطي سقط هناك، فهذا يعني أنّه لن ينجح بأيّ مكان في بلاد العرب، ولمدى طويل بعد.
وما الخلاصة من كلّ ذلك؟ الأولى هي هذه: الليبراليّة هي المرجعيّة العقديّة التي نريدها للبنان، لا العلمانيّة، لأنّ اللبرلة تتسّع دومًا للعلمنة، ولكنّ العلمنة يمكن أن تكون أنتي – ليبراليّة وأنتي – ديموقراطيّة. وأمّا الخلاصة الثانية فهي أنّ علاقاتنا مع العرب تخدم مصالحنا لو بقيت بالحدود التي يريدها لها "الانعزاليّون". ما سوى ذلك، ليس عند المحيط ما نحتاجه، أو ما يبهج القلب.